دخل البثنة من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى . وقيل إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى . . والله أعلم . وقد قيل غير ذلك في نسبه . ويقال فيه زكريا بالمد والقصر ، ويقال زكري أيضاً .
والمقصود أن الله تعالى أمر رسوله (صلى الله عليه وسلم) أن يقص على الناس خبر زكريا عليه السلام وما كان من أمره حين وهبه الله ولداً على الكبر وكانت امرأته مع ذلك عاقراً في حال شبيبتها وقد أسنت أيضاً حتى لا ييأس أحد من فضل الله ورحمته ولا يقنط من فضله تعالى :" ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا " قال قتادة عند تفسيرها : إن الله يعلم القلب النقي ويسمع الصوت الخفي ، وقال بعض السلف : قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضراً عنده مخافته فقال : يا رب يا رب يا رب . . فقال الله : لبيك لبيك لبيك ." قال رب إني وهن العظم مني " أي ضعف وخار من الكبر " واشتعل الرأس شيبا " استعارة من اشتعال النار في الحطب أي غلب على سواد الشعر شيبه كما قال ابن دريد في مقصورته :
أما ترى رأسي حاكى لونه طرة صبح تحت أذيال الدجا
واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جمر الغضا
وآض عود اللهم يبساً ذاوياً من بعد ما قد كان مجاج الثرى
يذكر أن الضعف قد استحوذ عليه باطناً وظاهراً . وهكذا قال زكريا عليه السلام :" إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ".
وقوله :" ولم أكن بدعائك رب شقيا " أي ما عودتني فيما أسألك إلا الإجابة وكان الباعث له على هذه المسألة أنه لما كفل مريم بنت عمران بن ماثان ، وكانت كلما دخل عليها محرابها وجد عندها فاكهة في غير إبانها ولا في أوانها وهذه من كرامات الأولياء ، فعلم أن الرزاق للشيء في غير أوانه قادر على ان يرزقه ولداً وإن كان قد طعن في سنه " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " وقوله :" وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا " قيل المراد بالموالي العصبة ، وكأنه خاف من تصرفهم بعده في بني إسرائيل بما لا يوافق شرع الله وطاعته فسأل وجود ولد من صلبه يكون براً تقياً مرضياً ولهذا قال :" فهب لي من لدنك " أي من عندك بحولك وقوتك " وليا * يرثني " أي في النبوة والحكم في بني إسرائيل " ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " يعني كما كان آباؤه وأسلافه من ذرية يعقوب أنبياء فاجعله مثلهم في الكرامة التي أكرمتهم بها من النبوة والوحي ، وليس المراد هاهنا وراثة المال كما زعم ذلك من زعمه من الشيعة ووافقهم ابن جرير هاهنا وحكاه عن أبي صالح من السلف ، لوجوه :
أحدها : ما قدمناه عند قوله تعالى :" وورث سليمان داود " أي في النبوة والملك لما ذكرنا في الحديث المتفق عليه بين علماء الموري في الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها من طرق عن جماعة من الصحابة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" لا نورث ما تركنا فهو صدقة " فهذا نص على أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يورث ، ولهذا منع الصديق أن يصرف ما كان يختص به في حياته إلى أحد من ورثته الذين لولا هذا النص لصرف إليهم ، وهم ابنته فاطمة وأزواجه التسع وعمه العباس رضي الله عنهم ، تواحتج عليهم الصديق في منعه إياهم بهذا الحديث ، وقد وافقه على روايته عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب والعباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وأبو هريرة وآخرون رضي الله عنهم .
والثاني : أن الترمذي رواه بلفظ يعم سائر الأنبياء :" نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وصححه .
الثالث : أن الدنيا كانت أحقر عند الأنبياء من أن يكنزوا لها أو يلتفتوا إليها أو يهمهم أمرها حتى يسالوا الأولاد ليحوزوها بعدهم ، فإن من لا يصل إلى قريب من منازلهم في الزهادة لا يهتم بهذا المقدار أن يسأل ولداً يكون وارثاً له فيها .
الرابع : أن زكريا عليه السلام كان نجاراً بعمل بيده ويأكل من كسبها ، كما كان داود عليه السلام يأكل من كسب يده ، والغالب ولا سيما من مثل حال الأنبياء أنه لا يجهد نفسه في العمل إجهاداً يستفضل منه مالاً يكون ذخيرة له ولمن يخلفه من بعده ، وهذا أمر بين واضح لكل من تأمله وتدبره وتفهمه . . إن شاء الله .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، يعني ابن هارون ، أنبأنا حماد بن سلمة ن عن ثابت ، عن أبي رافع ، عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال :" كان زكريا نجاراً " وهكذا رواه مسلم و ابن ماجه من غير وجه ، عن حماد بن سلمة به .
وقوله :" يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا " وهذا مفسر بقوله :" فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ".
فلما بشر بالولد وتحقق البشارة شرع يستعلم على وجه التعجب وجود الولد له والحالة هذه " قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا " أي كيف يوجد ولد من شيخ كبير ، قيل كان عمره إذ ذاك سبعاً وسبعين سنة ، والأشبه والله أعلم أنه كان أسد من ذلك " وكانت امرأتي عاقرا " يعني وقد كانت امرأتي في حال شبيبتها عاقراً لا تلد . . والله أعلم .